[center]عبارة "غير المخلوق"
أن أقوالنا هذه تبهج المؤمنين، ولكنها تحزن الهراطقة الذين يرون هرطقتهم
وقد دحضت وأبطلت، بهذه الأقوال.
وأيضاً فإن سؤالهم ذلك الذى يقولون فيه
"هل هناك واحد فقط غير
مخلوق ( ) أم أثنان؟" يثبت أن تفكيرهم ليس مستقيماً، بل هو مريب وملئ بالغش والخداع.
فإنهم لا يسألون هذا السؤال من أجل أكرام الآب، بل من أجل أهانة الكلمة.
فلو أن أحد الناس وهو يجهل خبثهم ودهاءهم أجابهم بأن الغير
مخلوق هو واحد، ففى الحال ينفثون سمومهم قائلين:
"إذن فالابن ينتمى إلى المخلوقات، وحسناً ما قلناه بأنه لم يكن موجوداً
قبل أن يولد، وهكذا فإنهم يخلطون كل الأشياء وبهذا يثيرون الإضطرابات، وذلك
لكى يفصلوا الكلمة عن الآب، ويحسبوا الذى هو خالق الكل، أنه من بين
مخلوقاته.
أنهم يستحقون الإدان والتنديد بهم،
أولاً، لأنهم بينمايلومون الأساقفة الذين اجتمعوا فى نيقية(66) بسبب
استخدامهم لعبارات ليست من الكتاب المقدس – رغم أنها ليس عبارات مضادة
للإيمان بل قد وضعت بهدف فضح كفرهم، فقد وقعوا هم أنفسهم فى نفس الأمر، أى
أنهم نطقوا بعبارات ليست من الكتاب المقدس وابتدعوا اهانات ضد الرب، "وهم
لا يعرفون ما يقولونه ولا ما يقررونه" (1تيمو7:1).
لذلك فليسألوا إذن، اليونانيين. الذين سبق أن سمعوا منهم ما قالوه (لأنه
ليس من الكتب المقدسة بل من اختراعهم) وذلك لكى يسمعوا منهم أيضاً. كم للفظ
(غير المخلوق – غير الصائر) من معان عديدة، وعندئذ سيتعلمون أنهم حتى لا
يعرفوا أن يسألوا السؤال الصائب، وذلك حتى بخصوص الأشياء التى يتحدثون
عنها.
لأنى أنا أيضاً – بسببهم – قد سألت وعرفت،
(عبارة)، غير المخلوق" (غير الصائر)
يقصد بها
ذلك الذى لم يصر له وجود، ولكنه من الممكن أن يصير. وذلك مثل الخشبة التى
لم تكن قد صارت سفينة بعد ولكنها من الممكن أن تصير كذلك.
وأيضاً فإن "غير المخلوق" (أو غير الصائر).
هو ذاك الشئ الذى لم يصر بعد، وليس من الممكن أن يصير أبداً، مثل المثلث
الذى لا يمكن أن يصير مربعاً أو العدد الزوجى أن يصير فردياً. ذلك لأن
المثلث لم يصر قط مربعاً ولا يمكن أن يكونه أبداً، كما لم يحدث قط أن صار
العدد الزوجى فردياً ولا يمكن أن يكونه.
وأيضاً يقصد بكلمة "غير الصائر – (غير المخلوق)" ما هو موجود، دون أن يصير
من أحد، وليس له والد بالمرة.
وقد أضاف أيضاً أستيريوس(67)السفسطى الخبيث، وهو المدافع عن هذه الهرطقة فى
مقالته قائلاً: بأن غير المخلوق – (غير الصائر)، هو الذى لم يخلق (بضم
الياء) ولكنه كائن دائماً.
فكان ينبغى إذن حينما يسألون السؤال. أن يضيفوا ما المعنى الذى يفهمون به
كلمة "غير المخلوق – (غير الصائر)، حتى أن الذى يسألونه يستطيع أن يجيب
الإجابة الصائبة.
- إن كانوا يحسبون أنهم يسألون السؤال الصائب.
بقولهم
"هل هناك واحد فقط غير
مخلوق (غير صائر) أم اثنان؟"
فإنهم أولاً سيسمعون الجواب – بإعتبارهم جهلة -، أن الأشياء غير المخلوقة
(غير الصائرة) كثيرة، وليس لها وجود. كما أن الأشياء التى يمكن أن تخلق (أن
تصير) هى أكثر جداً. وغير الكائن ليس فى إمكانه أن يصير كما سبق أن قيل.
أما إن كانوا يسألون عن نفس الموضوع،
على غرار أستيريوس بأن غير المخلوق (غير الصائر) هو الذى لم يخلق ولكنه
كائن دائماً.
فليسمعوا لا مرة واحدة بل مرات كثيرة، بأنه من الممكن أيضاً أن يقال عن
الابن، أنه غير
مخلوق (غير صائر) بحسب هذا المعنى المقبول عندهم، لأنه لا يحسب بين
الأشياء المخلوقة، ولا هو
مخلوق بل بالعكس فإنه كائن منذ الأزل مع الآب، كما سبق أن أتضح. وذلك
رغم تقلباتهم (أى تقلبات الآريوسيين) الكثيرة، والتى ليس لها من هدف سوى أن
يتكلموا ضد الرب قائلين "أنه وجد من العدم"، وأنه "لم يكن موجوداً قبل أن
يولد".
وهكذا فبعد أن خذلوا من كل ناحية، فإنهم أخذوا يسألون أيضاً بخصوص ذلك
المعنى الذى يكون بمقتضاه "غير المخلوق (غير الصائر) هو ذلك الذى يكون
موجوداً، بدون أن يكون مولوداً من أحد، وليس له أب خاص به" فأنهم سيسمعون
منا أيضاً أن المقصود "بغير المخلوق" (غير الصائر) هو بهذا المعنى واحد فقط
وهو الآب ولن يحصلوا على أى شئ أكثر مما سمعوه.
لأن القول
بأن الله "غير مخلوق" (غير صائر) بهذا المعنى،
لن يبرهن القول بأن الابن
مخلوق (صائر).
وفقاً للبراهين السابقة.
إذ يتضح أن الكلمة هو مثل ذاك الذى ولده. وتبعاً لذلك. فإن كان الله غير
مخلوق (غير صائر)، فصورته – أى كلمته وحكمته ليس بمخلوق بل هو مولود.
لأنه أى مشابهة هناك بين المخلوق (الصائر). وغير المخلوق (غير الصائر)؟
(لأنه ينبغى ألا نكل من تكرار نفس الكلام).
فإن كانوا يريدون أن يجعلوا المخلوق مشابهاً لغير المخلوق فيكون
أن من يرى هذا كمن يرى ذاك، فليس بعيداً عليهم إذن أن يقولوا. أن غير
المخلوق هو صورة خلائقه، وبذلك تكون كل الأشياء قد اختلطت فى أذهانهم.
وبذلك يساوون بين المخلوقات وغير المخلوق، وهذا يعتبر إلغاء لغير المخلوق
وقياسه بقياس المخلوقات. وكل هذا إنما يفعلونه فقط لكى يحطوا من قدر الإبن
ويحسبونه فى عداد المخلوقات.
- ولكنى أظن أنهم
لا يرغبون أن يستمروا مداومين على مثل هذه الأقوال، إن كانوا قاً يشايعون
أستيريوس السوفسطائى.
فإنه رغم أهتمامه بالدفاع عن الهرطقة الأريوسية بقوله أن غير المخلوق (غير
الصائر) هو واحد، فإنه يناقضها مؤكداً أن حكمة الله أيضاً غير
مخلوق وليس له بداية وهاك بعض المقاطع مما كتبه:
"لم يقل المغبوط بولس أنه كرز بالمسيح على أنه القوة التى لله والحكمة التى
لله(68) ولكنه بدون استعمال أداة تعريف قال، قوة الله وحكمة الله، وهكذا
كرز بأن قوة الله الذاتية، التى هى من طبيعته، والكائنة معه أزلياً، إنما
هى قوة أخرى".
وبعد قليل أيضاً يقول
"ولكن قوته الأزلية وحكمته التى يوضح منطق الحق إنها حقاً بلا بداية وغير
مخلوقة (غير صائرة)، إنما هى واحدة بالتأكيد".
لأنه وإن كان لم يفهم كلمات
الرسول فهماً سليماً بظنه أن هناك حكمتان. ولكنه مع ذلك بقبوله القول
بحكمة مشاركة معه فى الوجود دائماً، فهو يقول أن غير المخلوق (غير الصائر)
ليس واحداً بعد. بل أن هناك غير
مخلوق (غير صائر) آخر معه لأن المشارك (بكسر الراء) فى الوجود لا
يتشارك فى الوجود مع نفسه بل مع آخر.
ولذلك فليكف أولئك المشايعون لاستيريوس عن التساؤل: "هل غير المخلوق (غير
الصائر) واحداً أم اثنان وإلا فإنهم سيصطدمون به فى هذا الأمر ويرتابون
فيه.
ومن الناحية الأخرى،
فإن كانوا يقاومونه فى ذلك أيضاً فليكفوا عن الأعتماد على كتابه، لئلا
ينهشوا بعضهم بعضاً ويفنوا بعضهم بعضاً.
هذا هو ما قالوه بسبب جهالتهم، وماذا يستطيع
أى شخص أن يقول أزاء مكرهم هذا؟ ومن هو الذى لن يكره بحق أولئك المتهوسين
إلى هذه الدرجة؟.
فما داموا لا يتجاسرون أن يقولوا صراحة
"أنه من العدم".
وانه "لم يكن موجوداً قبل أن يولد". لذلك أخترعوا لأنفسهم
عبارة "غير مخلوق" (غير صائر).
لكى بقولهم عن الابن أنه "مخلوق" (صائر)، وسط السذج البسطاء، فإنهم يقصدون
نفس تعبيراتهم السابقة تلك وهى "أنه من العدم" وأنه "لم يكن موجوداً قط قبل
أن يولد". لانهم يعنون بهذه العبارات "الأشياء الصائرة والمخلوقة".
- فلو كانت لديهم الثقة فى ما يقولونه،
لكان من الواجب عليهم أن يظلوا ثابتين على موقفهم، ولا يتغيرون بطرق
متنوعة، ولكنهم يرفضون ذلك. ظانين أنه يمكنهم أن ينجحوا بسهولة، إذا هم
أخفوا هرطقتهم تحت ستار كلمة "غير المخلوق" (غير الصائر)
وفى الواقع فإن لفظة "غير المخلوق" هذه لا تستعمل (عن الله) بالنسبة إلى
الابن – ولو أنهم يتذمرون – بل بالنسبة إلى المخلوقات
وهكذا يمكن أن نرى نفس الشئ فى كلمة "ضابط الكل"، وكلمة "رب القوات" فلو
أن الآب يضبط ويسود كل الأشياء من خلال الكلمة. والإبن يملك مملكة الآب
وتكون له السيادة على الكل. حيث أنه هو كلمة الآب وصورته.
فيكون واضحاُ إذن أن الابن لا يحسب من بين الكل، ولا يسمى الله "ضابط
الكل"،
"والرب" بالنسبة إلى الابن، بل بالنسبة إلى المخلوقات التى (تكونت) عن
طريق الابن،
وهى تلك التى يضبطها ويسودها بواسطة الكل. وهكذا فإن لفظة "غير مخلوق" لا
تستعمل (عن الله) بالنسبة إلى الإبن ولكن بالنسبة إلى المخلوقات التى هى عن
طريق الإبن، وأن هذا لصواب، حيث أنه ليس مثل المخلوقات. بل هو خالقها
وصانعها بواسطة (من خلال) الإبن. كما أن لفظة "غير مخلوق" تستعمل (عن الله)
بالنسبة إلى المخلوقات،
هكذا أيضاً فإن كلمة "الآب" تعلن عن الإبن.
فإن من يسمى الله صانعاً وخالقاً وغير مخلوق. فإنه يرى ويفهم الأشياء
المخلوقة والمصنوعة. أما الذى يسمى الله أباً فإنه فى الحال يدرك الإبن
ويعرفه. ولذلك فقد يدهش البعض من حبهم للجدال مع عدم تقواهم، لأنه بالرغم
من أن لكلمة "غير المخلوق" معنى حسن – سبق أن أشرنا إليه – بحيث يمكن أن
نذكر هذه الكلمة بورع وتقوى، أما هم فيتكلمون بها لأجل إهانة الإبن بحسب
هرطقتهم، وهم لم يقرأوا، أن الذى يكرم الإبن، إنما هو يكرم الآبن والذى لا
يكرم الإبن، إنما هو لا يكرم الآب (يو23:5) لأنهم لو كان لديهم أى أهتمام –
على وجه العموم – بتمجيد وتكريم الآب، لكان من واجبهم بالأحرى، أن يعترفوا
بأن الله أب ويلقبونه كذلك، بدلاً من أن يسمونه بهذه الطريقة (أى غير
المخلوق)، وكان هذا سيكون أفضل وأعظم.
أما أن يسموا الله
"غير المخلوق".
متخذين هذه التسمية من أعماله المخلوقة، كما سبق أن قلنا – وهكذا يلقبونه
خالقاً وصانعاً فقط، ظانين أنهم بهذا يستطيعون أن يعتبروا "الكلمة" مخلوقاً
حسب أهوائهم. أما الذى يدعو الله أباً، فإنه يسميه هكذا نسبة إلى الإبن
بدون أن ينكر أنه ما دام يوجد ابن،
فبالضرورة فإن كل المخلوقات قد خُلقت عن طريق الإبن. وأولئك عندما يسمون
الله "غير المخلوق" فإنما يشيرون إليه فقط من جهة نسبته إلى المخلوقات.
وهم بذلك لا يعرفون الابن مثلهم مثل الامميين. أما الذى يدعو الله أباً،
فإنه يسميه هكذا نسبة إلى "الكلمة". والذى يعرف "الكلمة". فإنه فى نفس
الوقت يعرف أنه الخالق. ويفهم أنه كل شئ به قد كان (قد صار) (يو3:1).
- لذلك فإنه بالحق سيكون أكثر تقوى، لو أنهم أشاروا إلى الله مبتدئين من
الإبن، وهكذا يلقبونه أباً، بدلاً من أن يسمونه نسبة إلى أعماله فقط
فيلقبونه "غير المخلوق". لأن هذا اللقب نسبة إلى أعماله فقط فيلقبونه "غير
المخلوق".
لأن هذا اللقب (الأخير) يشير فقط إلى كل خليقة – كما سبق أن قلت – وعموما
فإن هذا اللقب يشير إلى كل الأعمال التى خلقت بإرادة الله من خلال الكلمة.
فى حين أن لقب الآب يفهم وله دلالته فقط بالنسب إلى الابن. وبقدر ما يختلف
الكلمة عن سائر الموجودات، فبمثل هذا القدر بل وأكثر. يكون الاختلاف بين أن
يدعى الله "باً". وبين أن يدعى "غير المخلوق".
لأن هذا اللقب (الأخير) غير مستقى من الكتب المقدسة بل ويثير الريبة والشك،
لأنه يحوى فى الواقع معانٍ متعددة. لدرجة أنه فى حالة التساؤل عن هذا
اللقب، فإن الفكر ينتابه الحيرة والإضطراب، أما لقب "الآب" فهو لقب بسيط
مستقى من الكتاب المقدس، وهو لقب أكثر صواباً وحقاً. وهو يشير إلى "الابن"
فقط.
أما لقب "غير المخلوق"
فهو كلمة موجودة عند اليونانيين (الامميين) الذين لم يكونوا يعرفون
"الابن". أما لقب "الآب" فقد صار معروفاً إذ قد أنعم به الرب يسوع) علينا.
لأنه قد عرف – فى الواقع – ابن من هو. عندما قال "أنا فى الآب والآب فى"
(يو10:14) وأيضاً "من رآنى فقد رأى الآب" (يو9:14) وأيضاًُ "أنا والآب
واحد" (يو30:10). ولا يوجد فى أحد هذه الشواهد أى إشارة بتلقيب الآب بلقب
"غير المخلوق" بل حين علمنا أن نصلى، لم يقل حينما تصلون قولوا:
أيها الإله غير المخلوق، بل بالحرى قال "حينما تصلون قولوا أبانا الذى فى
السموات" (مت9:6) وهو بهذا قد أراد أن يركز على أساس إيماننا عندما أمرنا
أن تكون معموديتنا ليس باسم "غير المخلوق" والمخلوق ولا بأسم "الخالق"
و "المخلوق" بل بأسم "الآب والإبن والروح القدس" (مت 19:28) لأننا وإذ نحن
من بين المخلوقات. نصير هكذا مكتملين وبهذا نصير أبناء. وإذ ندعو اسم
الآب، فإننا من هذا (الأسم) نعرف أيضاً الكلمة الذى هو من ذات الآب. إذن
فما يجادلون به بخصوص لفظة "غير المخلوق"، إنما يدل على عبث، وليس هو أكثر
مما هو فى خيالهم وحده.